10 سنوات من الأَسر... قصّة الشمّاس السوريّ المحرَّر جوني الداود

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر | مصدر الصورة: كنيسة مار ميخائيل - رعيّة مسكنة

في قلب سوريا التي مزّقتها الحرب، عاش الشمّاس جوني فؤاد الدواد تجربةً استثنائيّة تقشعِرّ لها الأبدان، يكشف تفاصيلها المؤثّرة عبر «آسي مينا».

من شغفه بالخدمة الكنسيّة والتحدّيات التي واجهها بعد عدوله عن الكهنوت، مرورًا بكابوس الأسر على يد جبهة النصرة ولحظات الإيمان والشكّ بين قضبانه، وصولًا إلى النور الذي أشرق فجأةً في ظلام يأسه، يُشاركنا الداود فرحة اللحظة التي عاد فيها إلى كنف عائلته وكنيسته بعد عشرة أعوام من الغياب.

حدِّثنا عن نشأتِكَ ومسيرتك في الكنيسة

وُلِدتُ في عائلة ملتزمة دينيًّا، وكنتُ منذ طفولتي شغوفًا بالمشاركة في النشاطات الرعويّة. في سنّ الثانية عشرة، التحقتُ بالإكليريكيّة الصغرى ثمّ الكبرى في لبنان، وتخرّجتُ عام 2009 حاملًا شهادة في اللاهوت والفلسفة من جامعة الروح القدس في الكسليك.

عدتُ إلى حمص استعدادًا للرسامة الكهنوتيّة، لكن مع اقتراب موعد الرسامة الشمّاسيّة الإنجيليّة التي تسبقها، شعرتُ بعدم استعدادي الكامل لنيل تلك الدرجات، ولم أكن مقتنعًا تمامًا بموضوع البتوليّة. وبعد تفكير واستشارات عدّة، قرّرتُ أن أكون صادقًا مع الله ومع نفسي، فأعلنتُ انسحابي، الأمر الذي فاجأ الأهل والأصدقاء، خصوصًا عمّي الكاردينال البطريرك مار أغناطيوس موسى الأوّل داود.

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: كنيسة مار ميخائيل - رعيّة مسكنة
من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: كنيسة مار ميخائيل - رعيّة مسكنة

ما هي التحدّيات التي واجهتَها بعد تراجعك عن الرسامة؟

تزوّجتُ ورُزِقتُ طفلًا. لكن مع اندلاع الثورة السوريّة، خسرتُ بيتي في حيّ الحميديّة المسيحيّ في حمص القديمة بسبب الاشتباكات. وكانت الخدمة العسكريّة التحدّي الأكبر، تنقّلتُ فيها بين جبهات عدّة، آخرها مطار أبو الظهور الذي حوصِرنا فيه أشهرًا طويلة.

كان الوضع مأسويًّا، إذ نَفد الطعام من المستودعات، واضطررنا إلى أكل الأعشاب وأوراق الشجر، وكانت المياه ملوّثة وغير صالحة للشرب، فأصابتنا أمراض مختلفة. وفي سبتمبر/أيلول 2015 استطاع الثوّار اقتحام المطار، ولم ينجُ سوى 38 شخصًا من أصل 300.

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود
من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود

كيف عشتَ تجربة الأسر؟

احتُجزنا وكنّا نأمل في حصول عمليّة تبادل، لكنّ مسؤولي النظام لم يتعاونوا مع قضيّتنا بشكل جدّي، حتّى إنّ مفاوضيهم قالوا في إحدى المرّات: «اقتلوهم، لم يعد يهمّنا أمرهم». على مدار الأعوام العشرة، عومِلنا معاملةً حسنةً، ولم نتعرّض للتعذيب أو الإهانة باستثناء فترة بداية الأسر عند التحقيق معنا. رغم ذلك، كانت معاناتنا كبيرة، وأصعب ما فيها عيشنا في عزلة تامّة عن كلّ ما يحدث خارجًا، وهو ما كان كفيلًا بتدمير نفسيّتنا. فأن تعيش في المجهول وكأنّك ميت، هو أمر يُصيبك باضطراب دائم وإحباط قاتل.

أصابتنا الأمراض، من بينها كورونا، وكادت تفتك بنا، ولم نكن نعلم أنّها فتكت بالملايين في الخارج. أمّا عن الطعام والشراب، فكانا جيّدَين عمومًا، وأكثر ما ضايقنا كان قلّة مياه الغسيل والحمّام، لكنّنا تجاوزنا الأمر. وبعد ثلاثة أعوام من الأسر، سُمح لنا بمكالمة واحدة قصيرة سنويًّا (في شهر رمضان) مع الأهل، نتيجة لقائنا أبا محمّد الجولانيّ زعيم جبهة النصرة.

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود
من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود

كيف أثّرت هذه التجربة في إيمانك؟

من الصعب جدًّا على الأسير وصف خبرته الروحيّة في سجنه ببضع كلمات. كان المسلمون مهتمّين بالنقاش معي حول القضايا الدينيّة، ومنهم من كنتُ أتحاشى النقاش معهم بسبب تعصّبهم الأعمى، إذ لا تجِد في قاموسهم سوى كلمات كافر ومُشرك ومرتدّ وملحد ومنافق. أمّا خرّيجو المعاهد والكلّيات الإسلاميّة الشرعيّة، فكنتُ أجد لذّة في مناقشتهم، إذ كان لي هامشٌ من الحرّية في الكلام والدفاع عن ديني، وكانوا يتقبّلون ذلك ويتفهّمونه.

أحببتُ جدًّا أن أشهد لإيماني، إذ كنتُ أشعر وكأنّي أعيش بين آبائنا القدّيسين والشهداء في أزمنة الاضطهاد الأولى. كنتُ دائمًا أعيش مع بولس الرسول قائلًا معه: «نسعى كسفراء عن المسيح»، فكنتُ سفيرًا للمسيح فعلًا وليس كلامًا، في مكانٍ يعتبر ذلك كفرًا.

المزيد

يؤلمني القول إنّني في بداية الأسر كنتُ أصلّي كثيرًا، فأناجي ربّي ليلًا وأدعوه نهارًا، لكن بمرور السنين وازدياد معاناتي ومعاناة عائلتي، لم يعد إيماني ثابتًا. بَدأتْ ثقتي بالله تهتزّ وتساءلتُ: لماذا لا يستجيب ربّي لي؟ لماذا يُعاقبني؟ وما ذنب أهلي وعائلتي الذين يذوقون معي كلّ هذا العذاب؟

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود
من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: الشمّاس جوني الداود

لاحقًا، اشتدَّ الأمر عليَّ أكثر وكدت أنهار وأعلن إلحادي التامّ. فجأةً، رأيتُ في المنام ما يُشبه الرؤيا. نهضتُ مذعورًا، جلستُ وقلبي يخفق بشدّة. شعرتُ يومها بأنّ الله يعاتبني بشدّة على ما وصلتُ إليه، وفي الوقت ذاته يطمئنني إلى أنه بجانبي، وأنه يراني ويشعر بألمي. وفعلًا، بعد أيّام قليلة على هذا المنام، تفاجأنا بسماع خبر سقوط النظام، واستبشرنا خيرًا بالإفراج عنّا، وشكرتُ ربّي وطلبتُ أن يغفر لي عصياني الوقح والجريء، وأنا أعلم أنّه سيسامحني كما سامح بطرس الرسول عندما أنكَرَه.

ماذا عن لحظة الإفراج عنك واستقبالك في حمص؟

صباح الأحد 2 مارس/آذار، ومن دون أيّ علم مسبق، نادوا اسمي طالبين منّي الاستعداد للرحيل. وقفتُ للحظة خارج بوّابة السجن غير مصدّق أنّني حرّ. نُقلتُ إلى قرية اليعقوبيّة المسيحيّة في ريف إدلب، حيث استقبلني الأب لؤي الفرنسيسكانيّ والأهالي بحرارة بالغة تركَتْ أثرها فيّ. وتواصلتُ هناك مع راعي أبرشيّتنا السريانيّة الكاثوليكيّة المطران يعقوب مراد وعائلتي. أخي منذر الذي لم يكن يعلم أنّي خرجتُ من الأسر بدأ يصرخ فرحًا عندما قلتُ له: «جهّزوا لي العشاء، اليوم مساءً أكون في البيت».

من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: كنيسة مار ميخائيل - رعيّة مسكنة
من احتفال الكنيسة والشعب بعودة الشمّاس جوني الداود من الأسر. مصدر الصورة: كنيسة مار ميخائيل - رعيّة مسكنة

وعندما وصلتُ إلى أبرشيّتي في حمص، كان المطران يعقوب مع الكهنة وزوجتي وابني والكثير من الأهل والأقارب في استقبالي، ودخلنا الكنيسة لنشكر الربّ وتناولتُ القربان المقدّس من يد سيّدنا المطران. وبعد تقبّل التهاني، توجّهتُ إلى قريتي «مسكنة» (في ريف حمص) ودخلنا القرية باحتفال مهيب. استقبلني أهلها المسيحيّون والمسلمون، الكبار منهم والصغار، وأتت حشود من مناطق أخرى. عندما رأيتُ فرحة الناس بتحرُّري، نسيتُ بحقٍّ وعلى الفور معاناة الأعوام العشرة.

(تستمر القصة أدناه)